هل صحيح أن الناس لم تتزوج في الجزائر هذا الصيف؟
زاد منسوب الانطباعات المبنية على المعاينة المباشرة البسيطة هذا الصيف، من قبل المواطنين، تصب كلها في خانة الوضع الاقتصادي للجزائريين، الذي عرف تدهورا هذه السنة بإفرازاته المتعددة. من بين هذه الانطباعات المبنية على التجربة الشخصية، التي تبقى في حاجة إلى تدقيق ودعم من الإحصاء الوطني، حتى وإن تأخر إلى وقت لاحق، أن الجزائريين لم يتزوجوا كثيرا هذه السنة، كما كان يحصل في كل صيف. لم ينظموا تلك الاحتفالات، التي كانوا يشتهرون بها في فصل الصيف، الذي مازال الجزائري يفضل تنظيم احتفالاته فيه، على عادة المجتمعات الريفية في منطقة المتوسط.
فخلال الفترة الواقعة بين الانتهاء من فصل الحصاد وانتظار فصل الحرث في بداية الخريف، وهو وقت يقل فيه النشاط المهني، يُستغل من قبل العائلات لتنظيم أعراسها، وهو ما يسمح بتنقل العائلات. لكنه ارتبط للأسف هذه السنوات الأخيرة، بزيادات كبيرة في حوادث الطرق، ما حول أفراح الجزائريين إلى جنائز.
الاحتفالات الغائبة هذه السنة عن صيف الجزائريين ليست المؤشر الوحيد، حسب هذه الرؤية، التي يغلب عليها التشاؤم. هناك كذلك النقص الملاحظ في عدد الجزائريين على شواطئ البحر، الذي قل حسب هذه الملاحظات، التي تكلم عنها الجزائريون على الوسائط الاجتماعية وفي لقاأتهم الجماعية، تكون قد مست الكثير من المناطق السياحية، في عز فصل العطل.
قبل الصيف لاحظ الكثير من الجزائريين ذلك العزوف، الذي ميز سلوك الجزائريين عندما تعلق الأمر بذبح أضحية العيد هذه السنة، بعد الارتفاع الجنوني، الذي عرفته أسعار الأغنام. وهذه القراءة السائدة اكتفت بالمستوى الاقتصادي والمالي لهذه الشعيرة الدينية، دون اهتمام بمستويات أخرى كتلك المرتبطة بالتحولات الديموغرافية، التي يعيشها المجتمع الجزائري منذ عقود. تحولات رفعت من الطلب على الحج والعمرة، في مجتمع كان السائد فيه اقتصارها على كبار السن، وليس الشباب كما بات يحصل في العقود الأخيرة، بالنسبة للكثير من الجزائريين.
يحدث ذلك في وقت يعيش فيه المجتمع الجزائري تسارعا في مسار تحولاته الديموغرافية المتعددة، أكدتها هذه السنة المعطيات الرقمية التي نشرها الديوان الوطني للإحصائيات، مثل تلك المتعلقة بارتفاع نسب الطلاق. فزواج واحد من بين ثلاثة ينتهي بالطلاق في سنة 2023، في وقت زاد فيه الطلب على الخلع من قبل الجزائريات الأكثر استقلالية من الناحية المالية وتضررا من العلاقة الزوجية.
تنزع بعض الآراء المحافظة لتفسير ذلك بعامل الحرية الكبيرة الممنوحة للمرأة قانونا في الجزائر، في فك رابط الزوجية، داخل مجتمع يعرف تحسنا أكيدا في معدلات السن الافتراضي للحياة (81 سنة بالنسبة للمرأة و78.2 سنة بالنسبة للرجل)، وهو ما جعل الجزائريين الأطول عمرا على مستوى القارة الإفريقية، مما يزيد حتما من طول فترة الحياة الجنسية خارج مؤسسة الزواج لدى الجزائرية والجزائري، بكل التبعات التي يمكن تصورها، في مجتمع زاد فيه نوع من التدين الاجتماعي الشكلي والمنافق، وقلّت فيه فرص الترفيه، خارج النمطية الاجتماعية المقبولة اجتماعيا..
مجتمع يعرف في نفس الوقت عملية انتقال ديموغرافي سريع تظهره الكثير من المؤشرات الإحصائية، نتيجة عدة عوامل لم تدرس بالشكل الكافي من حيث تأثيراتها على المديين المتوسط والبعيد، مثل تلك الاستفادة الأكيدة من التعليم بمختلف مستوياته ءتحديدا الجامعي منه بالنسبة للبنات ءوالدخول إلى سوق العمل بالنسبة للمرأة، التي تأخر سن زواجها الأول بشكل ملفت، وصل فيه إلى حدود الثلاثين سنة بالنسبة للمرأة وتجاوز 35 سنة بالنسبة للرجل، في وقت قل فيه الإنجاب، كما أكدته الإحصائيات المنشورة هذه السنة، التي أحصت عددا أقل من الولادات منذ 2010، بأقل من 900.000 مولود سنويا.
مؤشرات انتقال ديموغرافي سريع من نتائجه الأكيدة تغيير في السلوك الاستهلاكي للجزائرية والجزائري، الذي ابتعد عن قيم الأسرة الممتدة وثقافتها الاستهلاكية، كما بينه الامتناع عن ذبح الأضحية هذه السنة، وحتى الذهاب مع العائلة في عطلة سنوية. كما تشير إلى ذلك بعض الملاحظات من العديد من المناطق السياحية المشهورة بطابعها الشعبي. في وقت زاد فيه التركيز على نوعية الخدمات المقدمة، ولم يعد الجزائري يقبل بما هو حاضر من بقايا فترة الندرة السياحية، التي يمكن أن تخرج منها الجزائر بسرعة، ونحن نشاهد الاستثمارات الوطنية الكبيرة في الميدان السياحي، إذا أخذنا مؤشرا وحيدا هو عدد الفنادق المشيدة وتلك المبرمجة، التي يمكن أن تدفع صاحب القرار، في وقت لاحق، نحو فتح الحدود أمام السياحة الدولية، إذا تأكد إشباع السوق الداخلية، وتقلص الطلب داخلها.
مقابل توقع بروز لاستهلاك أكثر ترشيدا متمحورا حول الفرد وليس العائلة بالضرورة، كما يمكن أن يظهر في استثمارات محددة مثل السكن والسيارة الفردية لدى الرجل والمرأة، التي طالت عزوبيتهما. وهو ما حوّل هذا النوع من الاستهلاك إلى ضرورة حياتية قصوى، في مجتمع شاب قلّت فيه فرص الحياة والفرح. مجتمع لم يتخلص نهائيا من الممارسة الجماعية العائلية، عندما يتعلق الأمر بالترفيه في فصل الصيف، الذي يمكن أن يتمدد الفرح فيه ويتنوع عند فئات اجتماعية أوسع، يسمح بها تطور أسعار وسائل النقل الجوي والبحري.
وهو ما يتكيف أكثر مع عمر الجزائري/ة، الذي يطول أكثر، وتنوعت فيه أشكال وأنماط عمل الجزائريين والجزائريات، كما بدأت بعض المؤشرات تلوح بها بعيدا عن النمط الإداري البيروقراطي السائد، لدى رب العمل المهيمن حتى الآن، المتمثل في الدولة الوطنية. بكل ما قد يفرزه من سلوكيات على مستوى العطل والترفيه لدى الفرد الجزائري. في بلد يتمتع بتنوع طبيعي بين الشمال (البحر) والجنوب (الصحراء) بما يسهل توفير فرص سياحية متنوعة لا تقتصر على الصيف كما هو سائد حتى الآن.
في انتظار أن يظهر هذا «الأنا الجزائري» الذي تمهد له هذه التحولات على المستوى الديموغرافي في مجالات أخرى مثل الميدان الثقافي، الذي يقاس عند العض بسيطرة الرواية كتعبير فني، كما بدأ يظهر في الجزائر، وبالسياسي الذي عبر عنه الحراك الشعبي لمدة طويلة، بتلك المشاركة المتميزة للشباب من الجنسين في المسيرات، التي خرجت من مختلف مناطق البلاد، بكل التنوع الذي عرفته في مطالبها، وهي تركز على المستويات السياسية النوعية، باعتباره حلا لمعضلات التغيير المأزوم للنظام السياسي في الجزائر، وهو أمر لم يعد الجيل الشباب من الجزائريين، الذي أفرزته هذه التحولات النوعية الديموغرافية، يقبل به.
ناصر جابي كاتب جزائري (القدس العربي)